تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

عبادته لما يعبدون بزمان ، وهذا مما لا يصح ا ه. وقد يردّ هذا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى في الجملة الأولى الحال ، وفي الثانية الاستقبال وقول البيضاوي : فإن لا ، لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أنّ ما لا تدخل إلا على المضارع بمعنى الحال جري على الغالب فيهما

ولما أيس منهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لَكُمْ دِينُكُمْ) أي : الذي أنتم عليه من الشرك (وَلِيَ دِينِ) أي : الذي أنا عليه من التوحيد وهو دين الإسلام ، وفي هذا معنى التهديد كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [القصص : ٥٥] أي : إن رضيتم بدينكم فقد رضينا بديننا ، وهذا كما قال الجلال المحلي قبل أن يؤمر بالحرب ، وقيل : السورة كلها منسوخة وقيل : ما نسخ منها شيء لأنها خبر ، ومعنى لكم دينكم ، أي : جزاء دينكم ولي دين ، أي : جزاء ديني وسمي دينهم دينا لأنهم اعتقدوه ، وقيل : المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي لأنّ الدين الجزاء ، وحذفت ياء الإضافة من دين للتبعية وقفا ووصلا. قرأ نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه بفتح الياء والباقون بإسكانها.

فائدة : قال الرازي : جرت العادة بأنّ الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز ، لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه فيعمل بموجبه.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشريّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن ، وتباعدت منه مردة الشياطين ، وبرئ من الشرك ، ويعافى من الفزع الأكبر» (١) حديث موضوع إلا الجملة الأولى منه فرواها الترمذي.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨١٤.

٧٠١

سورة النصر

مدنية ، بالإجماع وتسمى سورة التوديع ، وهي ثلاث آيات وستة عشر كلمة وتسعة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم (الرَّحْمنِ) الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ودّه بفضله العميم.

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

وقوله تعالى : (إِذا) منصوب بسبح (جاءَ نَصْرُ اللهِ ،) أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له ، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل ، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها إلى اسم الذات.

وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة والباقون بالفتح ، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة ، روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع (وَالْفَتْحُ ،) أي : فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح ، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها ، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوزان وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ، ثم قال : «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (١) فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيأ فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] وقيل : المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ أجيب : بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٩ / ١١٨.

٧٠٢

قال الشاعر (١) :

إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي

بلاد تميم وانصري آل عامر

ويروى :

إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي

بلاد تميم وانصري أرض عامر

والفتح فتح البلاد ، وقال الرازي : الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا به ، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.

فإن قيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان دائما منصورا بالدلائل والمعجزات فما المعنى : بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟.

أجيب : بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ١٢٦] فما فائدة التقييد بنصر الله؟ أجيب : بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى ، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهورا بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار ، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصر الله فما السبب في ذلك؟ أجيب : بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى ، فإن قيل : فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّما على فعل الله تعالى ، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] فجعل نصره مقدّما على نصره لنا؟ أجيب : بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سببا لفعل آخر يصدر على الله تعالى ، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.

ولما عبر عن المعنى بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى : (وَرَأَيْتَ ،) أي : ببصرك الناس ، أي : العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام الكمال ، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعا بالنسبة إليهم رعاعا حال كونهم (يَدْخُلُونَ) شيئا فشيئا متجدّدا دخولهم مستمرّا (فِي دِينِ اللهِ ،) أي : شرع من لم تزل كلمته هي العليا (أَفْواجاً ،) أي : جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين.

وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم ، فقيل له في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا» (٢). وقال عكرمة ومقاتل : أراد

__________________

(١) ويروى البيت بلفظ :

إذا دخل الشهر الحرام فودّعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر

والبيت من الطويل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ١٣٣ ، ولسان العرب (نصر) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ١٦٠ ، وتاج العروس (نصر) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٤٤ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٤٣٥ ، ومجمل اللغة ٤ / ٤٠٨ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢٥٨.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٤٣ ، والدارمي في المقدمة حديث ٩٠ ، بلفظ : «ليخرجن منها أفواجا كما دخلوه أفواجا».

٧٠٣

بالناس أهل اليمن وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرؤون القرآن ، وبعضهم يهللون فسر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. قال أبو هريرة لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان ، والفقه يمان والحكمة يمانية» (١) وقال : «أجد نفس ربكم من قبل اليمن» (٢) وفي هذا تأويلات :

أحدها : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجا.

الثاني : أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل اليمن وهم الأنصار. وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال أمّة بعد أمّة. قال الضحاك : والأمة أربعون رجلا.

تنبيه : دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلها وللدّين أسماء أخر منها الصراط قال تعالى : (صِراطِ اللهِ) [الشورى : ٥٣] ومنها النور (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [التوبة : ٣٢] ومنها الهدى قال تعالى : (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) [الأنعام : ٨٨] ومنها العروة الوثقى قال تعالى : (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦] ومنها الحبل المتين قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) [آل عمران : ١٠٣] ومنها صبغة الله ، ومنها فطرة الله.

تنبيه : جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية قالوا : إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو لم يكن إيمانهم صحيحا لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ولا ثبات كونه تعالى عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا ثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح.

فإن قيل : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة ، بل كانوا جاهلين بالتفاصيل؟.

أجيب : بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ، فإنّ الدليل إذا كان مثلا من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدّمة العاشرة مقلدا كان في النتيجة مقلدا لا محالة.

ولما كمل الدين أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يشتغل بنفسه فقال عز من قائل : (فَسَبِّحْ ،) أي : نزه بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها تسبيحا ملتبسا (بِحَمْدِ رَبِّكَ ،) أي : الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين المحسن إليك بجميع ذلك ، لأنّ هذا كله لكرامتك وإلا فهو عزيز

__________________

(١) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، انظر البخاري في المناقب باب ١ ، والمغازي باب ٧٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٨٢ ، ٨٤ ، ٨٨ ، ٩٠ ، والترمذي في المناقب باب ٧١ ، والدارمي في المقدمة باب ١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٥ ، ٢٥٢ ، ٢٥٨ ، ٢٦٧ ، ٢٧٠ ، ٢٧٧ ، ٣٨٠ ، ٤٧٤ ، ٤٨٠ ، ٤٨٨ ، ٥٠٢ ، ٥٤١.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٥٤١.

٧٠٤

حميد على كل حال تعجبا لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامدا له عليه ، أو فصل له حامدا على نعمه قاله ابن عباس. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» (١). (وَاسْتَغْفِرْهُ ،) أي : اطلب غفرانه لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني ، فإنّ الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى ، والمحل الأقدس ، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت : «ما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول : استغفر الله وأتوب إليه ، قال : فإني أمرت بها ، ثم قرأ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخرها» (٢). وقال عكرمة : لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ففرحوا واستبشروا ، وبكى العباس فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عمّ؟ قال : نعيت إليك نفسك ،. قال : إنه كما قلت ، فعاش بعدها ستون يوما ما رؤي ضاحكا مستبشرا» (٣) وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع فبكى عمر والعباس ، فقيل لهما : هذا يوم فرح ، فقالا : لا بل فيه نعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فعاش صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزلت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] فعاش بعدها خمسة وثلاثين وقال مقاتل : سبعة أيام ، وقيل : غير ذلك. وقال الرازي : اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لوجوه :

أحدها : أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب السورة وذكر التخيير ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة : «إنّ عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فقال أبو بكر رضي الله عنه : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا» (٤).

ثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا دل ذلك على حصول الكمال والتمام ، وذلك يستعقبه الزوال كما قيل (٥) :

إذا تمّ أمر بدا نقصه

توقع زوالا إذا قيل تم

ثالثها : أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا ، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يقتضي انقضاء

__________________

(١) انظر الطبري في تفسيره ٢٣ / ١٣٧.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٩٣.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٩٠٤ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣٨٢ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٦٠.

(٥) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٧٠٥

الأجل إذ لو بقي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز وعن ابن عباس : أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر ، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال : إنه من قد علمتم. قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ولا أراه سألهم إلا من أجلي ، فقال بعضهم : أمر الله تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلوموني عليه بعد ما ترون. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : يا بنتاه إني نعيت إلى نفسي فبكت ، فقال : لا تبكي فإنك أوّل أهلي لحوقا بي» (١) وعن عائشة «كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر قبل موته أن يقول : «سبحانك اللهمّ وبحمدك استغفرك وأتوب إليك» (٢) وعنها أيضا «ما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة بعد أن نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلا يقول فيها : سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي» (٣). وقالت أم سلمة رضي الله عنها : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال : «سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه. قال : فإني أمرت بها ثم قرأ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخرها» (٤). وقيل : استغفره هضما لنفسك واستصغارا لعملك واستدراكا لما فرط منك بالالتفات على غيره وعنه عليه الصلاة والسلام : «إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» (٥) وقيل : استغفر لأمّتك وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق ، كما قيل : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله.

ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى : (إِنَّهُ ،) أي : المحسن إليك بالنصر والفتح وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر (كانَ ،) أي : ولم يزل (تَوَّاباً ،) أي : رجاعا بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته ، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات ، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئا فشيئا إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف ، وهو أيضا يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى : ٤] فتفوز بتلك السعادات العالية. وعن ابن مسعود : أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. قال قتادة ومقاتل : عاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة ، وهو قول الأكثر فإنّ الفتح كان في سنة ثمان ، وأمّا من قال : عاش دون ذلك كما مر فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضا.

تنبيه : في الآية سؤالات أحدها أنّ قوله تعالى : (كانَ تَوَّاباً) يدل على الماضي وحاجتنا إلى

__________________

(١) أخرجه بنحوه البخاري في المناقب حديث ٣٦٢٣ ، ٣٦٢٤ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٥٠ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٨٧٢ ، وابن ماجه في الجنائز حديث ١٦٢١.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٤ / ٣٤٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢ / ٣٦٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٣ ، ١٠ / ١٤٢ ، ١٤٣.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٤٩٦٧.

(٤) تقدم الحديث بنحوه مع تخريجه قبل قليل.

(٥) تقدم الحديث مع تخريجه.

٧٠٦

قبوله في المستقبل. ثانيها : هلا قال غفارا كما قال في سورة نوح عليه‌السلام. ثالثها : أنه قال تعالى : (نَصْرُ اللهِ) وقال تعالى : (فِي دِينِ اللهِ) وقال تعالى (بِحَمْدِ رَبِّكَ) ولم يقل بحمد الله؟ أجيب : عن الأوّل بوجوه :

أحدها : أنّ هذا أبلغ كأنه يقول إني تبت على من هو أقبح فعلا منكم كاليهود ، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر ونتق الجبل ونزول المنّ والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح ، ولما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلا لتوبة أولئك وهم دونكم أفلا أقبل توبتكم وأنتم خير أمّة أخرجت للناس.

ثانيها : إني شرعت في توبة العصاة ، والشروع ملزم على قول النعمان فكيف في كرم الرحمن.

ثالثها : كنت توابا قبل أمركم بالاستغفار ، أفلا أقبل وقد أمرتكم.

رابعها : كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم ، أي : لستم أوّل من جنى وتاب ، والمعصية إذا عمت خفت.

خامسها : كأنه نظير ما يقال لقد أحسن الله إليك فيما مضى ، كذلك يحسن إليك فيما بقي.

وأجيب : عن الثاني بوجهين : أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار ، ويقال : تواب إذا كان آتيا بالتوبة فيقول تعالى : كنت لي سميا من أوّل الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن ، وإن كان المعنى مختلفا فتب حتى تصير سميا في آخر الأمر ، وأنت تواب وأنا تواب ثم التوّاب في حق الله تعالى إنه يقبل التوبة كثيرا. فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيرا. وثانيهما : أنه تعالى إنما قال توابا لأنّ القائل قد يقول استغفر الله وليس بتائب كقوله عليه الصلاة والسلام : «المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه» (١).

فإن قيل : قد يقول أتوب وليس بتائب؟ أجيب : بأن ذا يكون كاذبا لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم ، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذبا فيه فصار تقدير الكلام : واستغفره بالتوبة ، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار فكذا خواتيم الأعمار. وأجيب عن الثالث : بأنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرّتين ، وذكر اسم الفعل مرّتين أحدهما الرب ، والثاني التوّاب. ولما كانت التربية تحصل أولّا والتوبة آخرا ، لا جرم ذكر اسم الرب أولا واسم التوبة آخرا فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح لا ننكث بعدها أبدا ، فإنه كريم رحيم.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨١٩.

٧٠٧

سورة تبت (١)

مكية ، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وسبعة وسبعون حرفا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) المتكبر الجبار المضل الهاد (الرَّحْمنِ) الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد (الرَّحِيمِ) الذي خص بتوفيقه أهل الوداد

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

وقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) دعاء عليه ، وسبب نزول ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] صعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا جعل ينادي : «يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا عنده ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقون؟ قالوا : بلى ،. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبا لك لهذا دعوتنا جميعا فنزلت» (٢).

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى : «يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش وذكر نحوه».

وفي رواية فصعد الصفا فهتف : «يا صباحاه فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ فقالوا : محمد فاجتمعوا إليه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا فنزلت» (٣).

وعن أبي زيد أنّ أبا لهب أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما يعطى المسلمون فقال ما لي عليهم فضل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأيّ شيء تبتغي قال : تبا لهذا من دين أن أكون وهؤلاء سواء فنزلت» (٤). ومعنى تبت قال ابن عباس : خابت. وقال قتادة : خسرت. وقال

__________________

(١) وهي أيضا سورة المسد.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٧٧٠ ، ٤٩٧٢ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٦٣.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٠٨.

(٤) انظر تفسير الطبري ٣٠ / ٣٣٦.

٧٠٨

عطاء : ضلت. وقال ابن جبير : هلكت والتباب الهلاك ، ومنه قولهم : أشابة أم تابة ، أي : هالكة من الهرم والتعجيز ، والمعنى : هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجرا ليرمي به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : رماه به فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم : خسرت يده ، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد ، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه ، أو عبر باليدين لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما. وقال يمان بن رباب : صفرت من كل خير حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفا يقول (١) :

لقد خلوك وانصرفوا

فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا نذورهم

فتبا للذي صنعوا

وقيل : المراد باليدين دينه ودنياه ، أو أولاه وعقباه ، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة وبالأخرى دفع المضرّة ، أو لأنّ اليمين سلاح واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واسمه عبد العزى. فإن قيل : لماذا كني بذلك ولم يكن له ولد اسمه لهب ، وأيضا فالتكنية من باب التعظيم؟ أجيب : عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسما كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك ، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم ، أو لتلهب وجنتيه وكان مشرق الوجه أحمره؟ وأجيب عن الثاني بوجوه : أحدها : أنه لما كان اسما خرج عن إفادة التعظيم ، ثانيها : أن اسمه كان عبد العزى كما مرّ فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم. ثالثها : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب ، وافقت حاله كنيته فكان جديرا بأن يذكر بها ، كقولهم : أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه ، أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم ، أو لأنها أنقص منه ، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لما كناه والكنية تكرمة ، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته ، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم ، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته ا ه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء ، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو : النهر والنهر.

وقوله تعالى : (وَتَبَ) خبر كما يقال : أهلكه الله وقد هلك ، فالأول : أخرج مخرج الدعاء عليه ، والثاني : أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده ، وقيل : المراد بالأوّل ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال ، وبالثاني نفسه.

ولما دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم ، قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى : (ما أَغْنى عَنْهُ) أي : عن أبي لهب (مالُهُ ،) أي : الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك ، فإنه كان صاحب مواش كثيرة. (وَما كَسَبَ ،) أي : من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ابنه عتبة شديد الأذى

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٧٠٩

للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ سلط عليه كلبا من كلابك» (١) فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بدّ أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها ، والركاب محيطة بهم ، فلم ينفعهم ذلك بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه وإنما كان الولد من الكسب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه ، وإنّ ولده من كسبه» (٢).

تنبيه : ما في (ما أَغْنى) يجوز فيها النفي والاستفهام فعلى الاستفهام ، تكون منصوبة المحل بما بعدها التقدير : أي شيء أغنى المال وقدم لكونه له صدر الكلام ، ويجوز في ما في قوله تعالى : (وَما كَسَبَ) أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية ، أي : وكسبه وأغنى بمعنى يغني.

ثم أوعده سبحانه بالنار فقال تعالى : (سَيَصْلى) أي : عن قريب بوعد لا خلف فيه (ناراً) يندس فيها وتنعطف عليه وتحيط به (ذاتَ لَهَبٍ ،) أي : لا تسكن ولا تخمد أبدا لأنّ ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بذات وذلك بعد موته. ولما أخبر تعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار زاده تحقيرا بذكر من يصونها بأزرى صورة وأشنعها بقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ) وهو عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته ، وهي أمّ جميل وهي أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، مثل زوجها في التباب والصليّ من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب ، وعدل عن ذكرها بكنيتها لأنّ صفتها القباحة وهي ضدّ كنيتها. قال البقاعي : ومن هنا يؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفا بما دل عليه لقبه. وقوله تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فيه وجهان :

أحدهما : هو حقيقة. قال قتادة : وكانت تعير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيرت بالبخل ، وقال ابن زيد : كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطؤه كما يطأ الحرير ، وقال برّة الهمداني : كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.

الوجه الثاني : أنّ ذلك مجاز عن المشي بالنميمة ورمي الفتن بين الناس ، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب منهم ، أي : يوقد بينهم النائرة ويثير الشر قال الشاعر (٣) :

من البيض لم تصطد على ظهر لأمة

ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٤ / ٣٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٨٢ ، والقاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٣٢.

(٢) أخرجه أبو داود في البيوع حديث ٣٥٢٨ ، والنسائي في البيوع حديث ٤٤٥١. وابن ماجه في التجارات حديث ٢١٣٧.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (حطب) ، (حظر) ، (برعم) ، ومجمع الأمثال ١ / ١٧٩ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٧٩ ، وأساس البلاغة (حظر) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣٩٤ ، ٤٥٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٢٨٨ ، وتاج العروس (حطب) ، (حظر).

٧١٠

جعله رطبا ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا والذنوب من قولهم : فلان يحتطب على ظهره قال تعالى : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم ، قال الزمخشري : وأنا أستحب هذه القراءة ، وقد توسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب شتم أمّ جميل ا ه. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ ، ويكون قوله تعالى : (فِي جِيدِها حَبْلٌ) حالا من امرأته ، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به ، ويجوز أن يكون في جيدها خبرا مقدّما وحبل مبتدأ مؤخرا ، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد.

وقوله تعالى : (مِنْ مَسَدٍ) صفة لحبل والمسد ليف المقل ، وقيل : الليف مطلقا ، وقال أبو عبيد : هو حبل يكون من صوف ، وقال الحسن : هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسد ، وكانت تفتله. وقال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عزوجل به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل : إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟ أجيب : بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبدا في النار. وعن ابن عباس قال : هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعا تدخل فيها وتخرج من أسفلها ، ويلوي سائرها على عنقها.

وقال قتادة : هو قلادة من ودع. وقال الحسن : إنما كان خرزا في عنقها. وقال سعيد ابن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت : واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد ، ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة. وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل ، يقال : مسد حبله يمسده مسدا ، أي : أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر ، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت : يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، والله إني لشاعرة (١) :

مذمما عصينا

وأمره أبينا

ودينه قلينا

ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها عني» وكانت قريش إنما تسمي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذمما ثم يسبونه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا تعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذمما وأنا محمدا» (٢). انظر كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١].

__________________

(١) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) انظر السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٢٠١.

٧١١

تنبيه : احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار ، فإنه قد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الأخبار عن الغيب بثلاثة أوجه :

أحدها : الإخبار عنه بالتباب والخسران وقد كان ذلك.

ثانيها : الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان ذلك.

ثالثها : الإخبار عنه بأنه من أهل النار وقد كان ذلك ، لأنه مات على الكفر هو وامرأته ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات ، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفا من بعيد مخافة عدوى العدسة وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون ، ثم احتملوه إلى أعلى مكة وأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة. وقيل : إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب ، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم ، أو من الضريع وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» (١). حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٢٢.

٧١٢

سورة الإخلاص

مكية ، في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي ، وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ) الذي له جميع الكمال ذي الجلال والجمال (الرَّحْمنِ) الذي أفاض على جميع خلقه عموم الأفضال (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والأكمال.

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

واختلف في سبب نزول سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب : أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنسب لنا ربك فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عامر : إلى من تدعنا يا محمد؟ فقال : إلى الله تعالى ، قال : صفه لنا ، أمن ذهب هو أم من فضة أم من حديد أم من خشب فنزلت ، وأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامر من الطفيل بالطاعون. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل : جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فإنّ الله تعالى أنزل صفته في التوراة فأخبرنا من أي شيء هو ، وهل يأكل ويشرب ، ومن ورث ومن يرثه فنزلت.

تنبيه : هو ضمير الشأن وهو مبتدأ وخبره الله ، وأحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله تعالى على جميع صفات الكمال ؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن التركيب والتعدّد وما يستلزم أحدهما كالجسيمة والتحيز والمشاركة في الحقيقة ، وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامّة المقتضية للألوهية.

فائدة : جاء في الواحد عن العرب لغات كثيرة ، يقال : واحد وأحد ووحد ووحيد ووحاد وأحاد وموحد وأوحد ، وهذا كله راجع إلى معنى الواحد ، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجىء في صفات الله تعالى إلا الواحد والأحد.

وقوله تعالى : (اللهُ ،) أي : الذي ثبتت إلهيته وأحديته لا غيره مبتدأ خبره (الصَّمَدُ) وأخلى هذه الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى ، أو الدليل عليها. والصمد : السيد المصمود إليه في الحوائج ، والمعنى : هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد بالإلوهية ولا يشارك فيها وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق لا يستغنون عنه ، وهو الغني عنهم.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصمد هو الذي لا جوف له ، وقال الشعبي : هو الذي لا يأكل ولا يشرب ، وقال الربيع : هو الذي لا تعتريه الآفات ، وقال مقاتل بن حبان : هو الذي لا عيب

٧١٣

فيه ، وقال قتادة : هو الباقي بعد فناء خلقه ، وقال سعيد بن جبير : هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله ، وقال السدّي : هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب. تقول العرب : صمدت فلانا أصمده صمدا بسكون الميم إذا قصدته.

وعن أبيّ بن كعب : هو الذي (لَمْ يَلِدْ) لأنّ من يلد سيموت ، ومن يرث يورث عنه ففسر الصمد بما بعده. وينبغي أن تجعل هذه التفاسير كلها تفسيرا واحدا فإنه متصف بجميعها فكونه لم يلد لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى من يعينه ، أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه لدوامه في أبديته ، والاقتصار على الماضي لوروده ردّا على من قال الملائكة بنات الله ، أو العزير أو المسيح أو غيره.

ولما بين أنه لا فصل له ظهر أنه لا جنس له فدل عليه بقوله تعالى : (وَلَمْ يُولَدْ) لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول ، فهو قديم لا أوّل له ، بل هو الأوّل الذي لم يسبقه عدم لأنّ الولادة تتكوّن ولا تتشخص إلا بواسطة المادّة وعلاقتها وكل ما كان مادّيا أو كان له علاقة بالمادة كان متولدا عن غيره ، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك.

(وَلَمْ يَكُنْ ،) أي : لم يتحقق ولم يوجد بوجه من الوجوه ولا بتقدير من التقادير (لَهُ ،) أي : خاصة (كُفُواً ،) أي : مثلا ومساويا (أَحَدٌ) على الإطلاق ، أي : لا يساويه في قوّة الوجود لأنه لو ساواه في ذلك لكانت مساواته باعتبار الجنس والفصل ، فيكون وجوده متولدا عن الازدواج الحاصل من الجنس الذي يكون كالأمّ ، والفصل الذي يكون كالأب ، وقد ثبت أنه لا يصح بوجه من الوجوه أن يكون في شيء من الولادة ، لأنّ وجوب وجوده لذاته فانتفى أن يساويه شيء. وكان الأصل أن يؤخر الظرف ؛ لأنه صلة لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم تقديما للأهمّ ، ويجوز أن يكون حالا من المستكن في كفؤا ، أو خبرا ، أو يكون كفؤا حالا من أحد وعطف هاتين الجملتين على الجملة التي قبلهما ، لأنّ الثلاث شرح الصمدية النافية لأقسام الأمثال فهي كالجملة الواحدة.

روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقول الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إياي يقول : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد» (١). وقرأ حمزة بسكون الفاء والباقون بضمها ، وقرأ حفص كفوا بالواو وقفا ووصلا ، وإذا وقف حمزة وقف بالواو.

وروي في فضائل هذه السورة أحاديث كثيرة منها ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يردّدها فلما أصبح أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، وكان الرجل يتقللها فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» (٢). فإن قيل : لم كانت تعدل ثلث القرآن؟

أجيب : بأن القرآن أنزل أثلاثا ثلث أحكام ، وثلث وعد ووعيد ، وثلث أسماء وصفات

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٩٧٤ ، والنسائي في الجنائز حديث ٢٠٧٨.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل القرآن حديث ٥٠١٣ ، ٥٠١٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٤٦١.

٧١٤

فجمعت هذه السورة أحد الأثلاث ، وهو الأسماء والصفات. وقيل : إنها تعدل القرآن كله مع قصر متنها وتقارب طرفيها ، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده ، وكفى بذلك دليلا لمن اعترف بفضلها.

ومنها ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ في صلاتهم فيختم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبروه أن الله تعالى يحبه» (١).

ومنها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وجبت قلت : ما وجبت؟ قال : الجنة» (٢).

ومنها ما روى أنس أيضا «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) خمسين مرة غفرت ذنوبه» (٣). ومنها ما روى سعيد بن المسيب «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) عشر مرّات بنى الله له قصرا في الجنة ، ومن قرأها عشرين مرّة بنى الله له قصرين في الجنة ، ومن قرأها ثلاثين مرّة بنى الله له ثلاث قصور في الجنة ، فقال عمر : إذن تكثر قصورنا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أوسع من ذلك» (٤).

ومنها ما رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة مرّة فكأنما قرأ القرآن أربع مرّات ، وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى» (٥). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره ، وأمن من ضغطة القبر ، وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة» (٦). وقد أفردت أحاديثها بالتأليف وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب.

ولها أسماء كثيرة ، وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى. أحدها : أنها سورة التفريد ، ثانيها : سورة التجريد ، ثالثها : سورة التوحيد ، رابعها : سورة الإخلاص ، خامسها : سورة النجاة ، سادسها : سورة الولاية ، سابعها : سورة النسبة ، لقولهم : أنسب لنا ربك ، ثامنها : سورة المعرفة ، تاسعها : سورة الجمال ، عاشرها : سورة المقشقشة ، حادي عشرها : سورة المعوذة ، ثاني عشرها : سورة الصمد ، ثالث عشرها : سورة الأساس ، قال : أسست السموات السبع والأرضين السبع على (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ،) رابع عشرها : المانعة لأنها تمنع فتنة القبر ونفحات النار ، خامس عشرها : سورة المحتضر لأنّ الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ، سادس عشرها : المنفرة لأن الشياطين

__________________

(١) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٨١٣.

(٢) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٨٩٧ ، والنسائي في الافتتاح حديث ٩٩٥.

(٣) أخرجه الدارمي في فضائل القرآن حديث ٣٤٣٨.

(٤) أخرجه الدارمي في فضائل القرآن حديث ٣٤٣٩.

(٥) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٤٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٤١٥.

(٦) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٤٥ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٤١٢ ، والقرطبي في تفسيره ٢٠ / ٢٤٩.

٧١٥

تنفر عند قراءتها ، سابع عشرها : سورة البراءة لأنها براءة من الشرك ، ثامن عشرها : المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد ، تاسع عشرها : سورة النور لأنها تنوّر القلب المكمل للعشرين سورة الإنسان قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قال العبد : الله ، قال الله : دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» (١). فنسأل الله تعالى أن يجيرنا من عذابه ، ويدخلنا الجنة نحن وجميع الأحباب بغير حساب ؛ لأنه كريم حليم وهاب.

وما رواه البيضاوي من أنها تعدل ثلث القرآن فرواه البخاري (٢) ، ومن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقرؤها إلخ فرواه الترمذي والنسائي (٣) وغيرهما.

__________________

(١) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في المصنف ٢ / ٣٢٣.

(٢) انظر البخاري في فضائل القرآن حديث ٥٠١٣ ، ٥٠١٤.

(٣) انظر الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٨٩٧ ، والنسائي في الافتتاح حديث ٩٩٥.

٧١٦

سورة الفلق

مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة ، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ) الذي له جميع الحول (الرَّحْمنِ) الذي استجمع كمال الطول (الرَّحِيمِ) الذي أتم على أهل ودّه جميع النول.

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

واختلف في سبب نزول سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم : كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدّة أسنان من مشطه وأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هذه و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فيه.

وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طب ، أي : سحر حتى كأنه يخيل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه ، وأنه دعا ربه ثم قال : أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه ، فقالت عائشة رضي الله عنها : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل؟ فقال الآخر : مطبوب ، قال : من طبه؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : فيماذا ، قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، قال : فأين هو؟ قال : في ذروان ، وذروان بئر بني زريق ، قالت عائشة رضي الله عنها : فأتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال : والله لكأنّ ماءها نقاعة الحناء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين ، قالت : فقلت : يا رسول الله هل أخرجته؟ قال : أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس منه شرا» (١).

وعن زيد بن أرقم قال : «سحر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من اليهود فاشتكى ذلك أياما فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا في بئر كذا وكذا ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا فاستخرجها فجاء بها ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنما نشط من عقال ، قال : فما ذكر ذلك اليهودي ولا أرى وجهه قط» (٢). وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر ، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيها مشاطة من رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسنان مشطه» (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطب حديث ٥٧٦٣ ، ومسلم في السلام حديث ٢١٨٩ ، وابن ماجه في الطب حديث ٣٥٤٥.

(٢) أخرجه النسائي في تحريم الدم حديث ٤٠٨٠.

(٣) انظر ابن كثير في تفسيره ٤ / ٥٧٥.

٧١٧

وعن مقاتل والكلبي : كان ذلك في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة ، وقيل : كانت مغروزة بالإبرة فأنزل الله هاتين السورتين ، وهما إحدى عشر آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنما نشط من عقال. وروي : أنه لبث فيه ستة أشهر اشتدّ عليه بثلاث ليال فنزلت المعوّذتان ، وروي : أنه كان يخيل له أنه يطأ زوجاته ، وليس بواطىء قال سفيان : وهذا أشدّ ما يكون من السحر.

وعن أبي سعيد الخدري : «أنّ جبريل عليه‌السلام أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، اشتكيت ، قال : نعم ، قال : باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، ومن شرّ كل نفس أو عين حاسد ، والله يشفيك باسم الله أرقيك» (١).

فإن قيل : المستعاذ منه هل هو بقضاء الله وقدره ، أو لا فإن كان بقضاء الله وقدره فكيف أمر بالاستعاذة مع أن ما قدر لا بدّ واقع؟ وإن لم يكن بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة؟ أجيب : بأنّ كل ما وقع في الوجود فهو بقضاء الله وقدره ، والاستشفاء بالتعوّذ والرقى من قضاء الله يدل على صحة ذلك ما روى الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، أرأيت رقى نسترقي بها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها هل يردّ من قضاء الله شيئا؟ قال : هو من قدر الله» (٢). قال الترمذي : هذا حديث حسن. وعن عمر : نفرّ من قدر الله إلى قدر الله ، ومعنى أعوذ : أستجير وأعتصم وأحترز ، والفلق : الصبح في قول الأكثرين ، ومنه قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : ٩٦] لأنه ظاهر في تغير الحال ، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفناء ، والهلاك بالبعث والإحياء. وقال الملوي : الفلق بالسكون والحركة كل شيء انفلق عنه ظلمة العدم ، وأوجد من الكائنات جميعا. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سجن في جهنم. وقال الكلبي : واد في جهنم. وقال الضحاك : يعني الخلق ، وقيل : المطمئن من الأرض وجمعه : فلقان مثل خلق وخلقان ، وقيل : الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه ، أي : تنشق وقيل : هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله تعالى. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى ، لأن الإعاذة من المشارّ تربية.

ولما كانت الأشياء قسمين : عالم الخلق وعالم الأمر ، وكان عالم الأمر خيرا كله فكان الشر منحصرا في عالم الخلق خصه بالاستعاذة فقال تعالى معمما فيها : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) فخص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه والشر يكون اختياريا من العاقل الداخل تحت مدلول ما وغيره من سائر الحيوانات كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم ، وتارة طبيعيا كإحراق النار ، وإهلاك السموم.

وقيل : المراد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقا شرا منه ، ولأنّ السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده ، وقيل : من شر كل ذي شر.

وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) فيه أوجه : أحدها : ما روي عن عائشة قالت : «إن

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الطب حديث ٣٥٢٣.

(٢) أخرجه ابن ماجه في الطب باب ١ ، والترمذي في الطب باب ٢١ ، والقدر باب ١٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٢١.

٧١٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى القمر فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» (١) أخرجه الترمذي ، وقال : حديث صحيح حسن فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف وأسود وذهب ضوءه ، أو إذا دخل في المحاق وهو آخر الشهر ، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض ، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة.

ثانيها : ما روي عن ابن عباس : أنّ الغاسق الليل إذا وقب ، أي : أقبل بظلمته من المشرق ، وسمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار. والغسق : البرد ، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل لأنّ فيه الآفات ويقل الغوث ، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ، وقولهم : أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ ، وفيه يتم السحر ، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.

ثالثها : إنه الثريا إذا سقطت وغابت ، ويقال : إنّ الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها ، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها.

رابعها : أنه الأسود من الحيات ، ووقبه : ضربه ونقبه والوقب النقب ، ومنه : وقبت الثريد.

ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك عقب ذلك بقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ،) أي : النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين عليها ، والنفث : النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة : النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قيل : ما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ أجيب : بثلاثة أوجه : أحدها : أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهنّ في ذلك. ثانيها : أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهنّ. ثالثها : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨] تشبيها لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد ، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك.

تنبيه : اختلف في النفث في الرقى ، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويدل عليه حديث عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين» (٢). وروى محمد بن حاطب : «أنّ يده احترقت فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه» (٣). وروى «أنّ قوما لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هل فيكم من راق؟ قالوا : لا حتى تجعلوا لنا شيئا ، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم ، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ ، فأخذوه ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : وما يدريك أنها رقية خذوا واضربوا لي معكم بسهم» (٤). وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي ، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وقيل : إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموما إذا كان سحرا مضرا بالأرواح والأبدان ، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٦٦.

(٢) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢١٩٢.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٤) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢٢٠١.

٧١٩

فلا يضر ، وليس بمذموم ولا مكروه بل هو مندوب إليه.

ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد ، أو غيره قال تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ ،) أي : ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه ، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات ، ثم قيد ذلك بقوله تعالى : (إِذا حَسَدَ ،) أي : إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود ، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده ، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.

وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد ، وفي إشعار الآية ادعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأنّ خير الناس من عاش محسودا ومات محسودا. فإن قيل : لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ أجيب : بأنّ النفاثات عرفت لأنه كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسق لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر.

وربّ حسد محمود وهو الحسد في الخيرات ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حسد إلا في اثنتين» (١) الحديث. وقال أبو تمام :

وما حاسد في المكرمات بحاسد

وقال آخر :

إن العلا حسن في مثلها الحسد

فائدة : قال بعض الحكماء : الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه : أولها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة. ثالثها : إنه ضاد فعل الله تعالى أن فضل ببره من شاء ، وهو يبخل بفضل الله تعالى. رابعها : أنه خذل أولياء الله تعالى ، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. خامسها : أنه أعان عدوّ الله إبليس ، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة ، ولا ينال في الدنيا إلا جزعا وغما ، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا ، ولا ينال من الله تعالى إلا بعدا ومقتا.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم آكل الحرام ، ومكثر الغيبة ، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين» (٢). وقيل : المراد بالحاسد في الآية اليهود ، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قيل : قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) تعميم في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ أجيب : بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمرهم ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به ، وقالوا : شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ، ألا والبغضاء هي الحالقة» (٣). فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه إنه كريم جواد.

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ١٥ ، والزكاة باب ٥ ، والأحكام باب ٣ ، والتمنّي باب ٥ ، والاعتصام باب ١٣ ، والتوحيد باب ٤٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩ ، ٣٦.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٦٥ ، ١٦٧.

٧٢٠